من السهل التفكير في أن الأثرياء العصاميين دائماً ما يحالفهم الحظ والتوفيق فقط لتحقيق ثرواتهم، ربما يُعد هذا عنصراً مثالياً لجني العديد من المكاسب الوقتية، إلا أن غالبية التجارب العالمية أثبتت أن استدامة النجاح في تكوين امبراطوريات اقتصادية رائدة غالباً ما يقترن بمدى قدرة هؤلاء الأثرياء من الاستفادة تحديات الواقع وتحويلها لأدوات حقيقية نحو التنامي بالشكل الذي يتناسب مع تحديات المستقبل والتغيرات المستمرة في جغرافيا الأسواق المختلفة.
وبالنظر عن النماذج العصامية داخل السوق المصرية، ستجد نفسك تبحث بشكل كبير عن أحد أبرز النماذج الاقتصادية وهو محمود العربي مؤسس مجموعة العربي، فقصته أشبه بحكايات الدراما والسينما التي طالما أبهرتنا بنماذج الصعود المختلفة، بل وتفوق عناصرها في ظل واقعيتها الشديدة بإعتباره أحد الأشخاص الذين نشأوا في بيئة مشابهة لبيئة كافة المصريين، عانى مما عانى منه أقرانه خلال ثلاثينيات القرن الماضي في إحدى القرى النائية بمركز أشمون في محافظة المنوفية عام 1932، والذين كانوا يستسلمون لمفردات حياتهم الإعتيادية والإكتفاء بمجرد العمل بالمزارع حينها، إلا أنه رفض ذلك المسار ليخوض مغامرة كبيرة بالعاصمة المصرية، في رحلة بدأت ببضعة ألاف جنيهات ووصولاً بها خلال العام الماضي ليبلغ حجم رأسماله العامل بشركاته نحو 20 مليار جنيه، تمكن خلالها توفير فرص الحياة الكريمة لأكثر من 40 ألف أسرة بمشروعاته المختلفة.
ونجح العربي في جعل إمبراطوريته الصناعية ذات خطاً موازياً لتدرجه في العمر، فكلما تقدم في السن، كان هناك خطوات تتبعها نحو التوسع سواء داخل السوق المصرية مدعوماً بالثقة الكبيرة التي يحوذها من جانب كبريات الشركات العالمية، وكذلك عبر نشاطها التصديري والتصنيعي في خارج مصر، لينال بذلك العديد من التكريمات والإشادات الدولية الواسعة مثل وسام “الشمس المشرقة” رفيع المستوى من الامبراطور اليابانى أكيهيتو في مايو 2009، لدوره الكبير في دعم وتحسين العلاقات الاقتصادية المصرية اليابانية، ليصل قطار تكريماته أمام الإشادة المتكررة من جانب الرئيس عبد الفتاح السيسي وتحيته له أواخر عام 2018 أثناء افتتاحه لعدداً من المشروعات التنموية بمحافظة بني سويف، إلى جانب الاشادة الكبيرة التي تلقتها شركاته عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالدور الذي قامت به الشركة مع العاملين لديها من خلال قيامها بمنحهم أجازات مدفوعة الأجر في ظل تفشي فيروس كورونا المستجد ، وتكفلها بإمداد مستشفيات الحميات والحجر الصحي بأجهزة منقية للهواء من خلال مؤسسة العربي لتنمية المجتمع وذلك للمساهمة في اسكتمال شفاء الحالات المصابة بالفيروس ، كما تقوم المؤسسة أيضا بتوصيل مساعدات غذائية ومادية لكثر من ٣٠ الف اسرة في انحاء الجمهورية .
ولد العربي عام 1932 في أسرة ريفية فقيرة بقرية “أبو رقبة” بمركز أشمون في محافظة المنوفية، توفي والده وهو في سن صغير، انتقل بعدها إلى القاهرة ليعمل بائعاً في محل صغير لبيع الأدوات المكتبية وعمره لم يتجاوز العاشرة، وفى عام 1954 التحق بالخدمة العسكرية لمدة ثلاث سنوات.
ويقول الحاج محمود العربي إن العوامل الثلاثة الرئيسية وراء نجاح مسيرته الصناعية والاقتصادية هي العزيمة والإصرار والإيمان، وإنه يمتلك قناعة تامة بأن المنتجات المصرية تمتلك المقومات والإمكانات التي تؤهلها لكسب ثقة العالم وأن ما حققته مجموعة العربي خير دليل على ذلك، حيث نجحت الشركة في إمتلاك توكيلات لأشهر الشركات الإلتكرونية العالمية مثل شركة توشيبا اليابانية التي اتخذت من مصر بفضل شركة العربي مركزاً رئيسياً للتصنيع والتواجد بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.
بداية الرحلة
بدأت علاقة العربي بالصناعة عبر إنشاء ورشة صغيرة للألوان والأحبار، ثم قام بتحويل مجال عمله من تجارة الأدوات المكتبية إلى تجارة وصناعة الأجهزة الكهربائية، حيث بدأ التجارة في سن صغير جدا بالتعاون مع أخيه الأكبر، الذي كان يعمل بالقاهرة، وعن تلك الفترة يقول العربي: “كنت أوفر مبلغ 30 أو40 قرشا سنويا أعطيها لأخي لكي يأتي لي ببضاعة من القاهرة قبل عيد الفطر، وكانت هذه البضاعة عبارة عن ألعاب نارية وبالونات، وكنت أفترشها على “المصطبة” أمام منزلنا لأبيعها لأقراني وأكسب فيها حوالي 15 قرشا، وبعد ذلك أعطى كل ما جمعته لأخي ليأتي لي ببضاعة مشابهة في عيد الأضحى، وبقيت على هذا المنوال حتى بلغت العاشرة، حيث أشار أخي على والدي أن أسافر إلى القاهرة للعمل بمصنع روائح وعطور وكان ذلك في عام 1942، وعملت به لمدة شهر واحد وتركته لأني لا أحب الأماكن المغلقة والعمل الروتيني”.
بعد ذلك انتقل العربي للعمل بمحل بحي الحسين وكان راتبه 120 قرشا في الشهر، واستمر في هذا المحل حتى عام 1949 ووصل راتبه إلي 320 قرشا، بعدها فضل العمل في “محل جملة” بدلا من المحل “القطاعي” لتنمية خبرته بالتجارة وكان أول راتب يتقاضاه في المحل الجديد 4 جنيهات وعمل فيه لمدة 15 عاما.
في عام 1963 سعى العربي للاستقلال بنفسه في التجارة، لكن لم يكن لديه ما يبدأ به، ففكر هو وزميل له بنفس العمل، أن يتشاركا مع شخص ثري، على أن تكون مساهمته هو وصاحبه بمجهودهما، بينما يساهم الطرف الثاني بأمواله، وكان رأس مال المشروع 5 آلاف جنيه، وهكذا أصبح لديه أول محل بمنطقة “الموسكي” بالقاهرة، والذي مازال محتفظا به حتى الآن.
وكانت تجارة العربي تقوم أساساً على الأدوات المكتبية والمدرسية، ولكن الحكومة قررت في الستينات صرف المستلزمات المدرسية للتلاميذ بالمجان، وهو ما يعني أن تجارة العربي لم يعد لها وجود، فاستعاض عنها بتجارة الأجهزة الكهربية، وحول تجارته بالكامل إلى الأجهزة الكهربائية في منتصف السبعينات مع انطلاق سياسة “الانفتاح الاقتصادي” وفكر في الحصول على توكيل لإحدى الشركات العالمية، لكن وجود الأدوات المكتبية في محلاته كان يقف حائلاً دون ذلك، إلى أن تعرف على أحد اليابانيين الدارسين “بالجامعة الأمريكية” بالقاهرة، وكان دائم التردد على محلاته، وكان هذا الشخص الياباني يعمل لدى شركة “توشيبا” اليابانية، فكتب تقريرا لشركته، أكد فيه أن العربي هو أصلح من يمثل توشيبا في مصر، فوافقت الشركة على منحه التوكيل.
التعاون مع اليابانيين
لم يكن عام 1974 مجرد عاماً عادياً لدى العربي حيث قام خلالها بأول زيارة له لليابان ليرى بعينه مصانع الشركة التي حصل على توكيلها، ليتنامى لديه سؤالاً ما الذي ينقصنا لإنشاء مصنع مثله؟، ثم طلب من المسؤولين فيها إنشاء مصنع لتصنيع الأجهزة الكهربائية في مصر وهو ما تم بالفعل، على أن يكون المكون المحلي من الإنتاج 40% رفعت لاحقا إلى 60% ثم 65% حتى وصلت إلى 95%، ومع تطور الإنتاج أنشأ شركة “توشيبا العربي” عام 1978.
وفي عام 2003 امتد نطاق الشراكة ليشمل عملاق ياباني آخر وهو شركة شارب اليابانية، فضلاً عن عدد كبير من الشركات الأخرى مثل سايكو وآلبا وتايجر وNEC وأخيراً شركة هيتاشي.
ولم يقتصر التعاون على الشركات اليابانية فقط، ولكنه إمتد أيضاً إلى الشركات الأوربية مثل شركة “لاجيرمانيا” الايطالية التي تُعد من أعرق الشركات العاملة في مجال صناعة البوتجاز وأيضا شركة “بروميثيان” العاملة في مجال منتجات التعليم الذكية.
أبعاد شخصية
تمتد روافد عائلة العربي لأكثر من 3 أجيال متعاقبة تشمل جيل الأباء المؤسسين للمجموعة رفقة الحاج محمود، وكذلك الجيل الثاني له والبالغ عددهم نحو 6 أولاد وبنتين وأخيراً الجيل الثالث للعائلة والتي تضم أكثر من 18 ولد و6 فتيات.
وفي سيناريو مخالف لمسلسل “لن أعيش في جلباب أبي” الذي يعد أحد كلاسيكيات الدراما التلفزيونية، توجه أبناء العربي للسير على خطى والدهم والعمل في مجالات الشركة المختلفة، باستثناء ابنه الدكتور ممدوح الذي يتولى الجانب الطبي في العائلة والمجموعة.
ويقول المهندس إبراهيم العربي أحد أبناء الحاج محمود العربي ونائب رئيس المجموعة، إن والده حريص حتى الآن على التواصل الدائم مع الجيل الثاني والثالث للعائلة، وذلك بهدف نقل خبراته الحياتية لهم، والتأكيد دائماً على ضرورة تأصيل العلاقة مع الله عز وجل وأهمية التواصل الدائم مع العاملين بالمجموعة، مشيراً إلى أنه حتى الآن لا يزال يجمع أفراد العائلة في منزل واحد للإجتماع بشكل دائم والتواصل المستمر فيما بينهم.
أشار إلى أن والده لم يتدخل مطلقاً حول اختيارات أبناؤه في إمكانية الخروج عن عباءته والعمل بشكل مستقل، خاصة وأنه كان حريصاً على تطورهم في مراحل التعليم المختلفة دون جبرهم على ضرورة استكمال مشواره التجاري والاقتصادي إلا أن تطلعات أبناؤه كانت في استكمال المسيرة الناجحة.
أضاف أن العربي قام برسم نهجاً مميزاً للتعامل مع الموظفين والعاملين بالمجموعة، حيث حرص على عمل مطعم وفندق خاص داخل المنطقة الصناعية، وذلك بهدف جمع العاملين والمسئولين بالمجموعة في مكان واحد لتناول وجبات الطعام دون أية تمييز بينهم، وكذلك تنظيم رحلات عمرة لأكثر من 10 آلاف موظف تابعين للمجموعة سنوياً، كما تحفز المجموعة العاملين بها على ضرورة الإقلاع عن التدخين بشكل مستمر.
الجانب الإجتماعي
لم يكن الجانب الإجتماعي في منأى عن اهتمامات الحاج محمود العربي بل استحوذ على نصيباً كبيراً من نشاطه سنوياً سواء في بلدته في محافظة المنوفية وكذلك على مستوى الجمهورية، من خلال مؤسسة العربي التابعة له والتي تمتلك 3 فروع رئيسية إحداها في المنوفية وأخرى بالقاهرة، وثالثة متنقلة لتقديم العديد من الخدمات الإجتماعية على مستوى باقي المحافظات.
وبدوره يعلق المهندس إبراهيم العربي نائب رئيس المجموعة، إن بدايات نشاط المسئولية الإجتماعية للمجموعة كانت من خلال تدشين مطعم خيري وجمعية أهلية بمنطقة الموسكي، ثم امتد ذلك النشاط ليصل حاليأ لأكثر من 9 مدارس مختلفة سواء تعليم أساسي أو فني، يرتكز أغلبها في بلدتهم بمحافظة المنوفية، فضلاً عن إنشاء مستشفتين لتقديم الخدمات الطبية سواء للعاملين بالمجموعة أو للمواطنين بشكل عام وذلك في محافظتي القاهرة والمنوفية بقدرة تصل لنحو 400 سرير للمرضى، فضلاً عن مشروعاته الأخرى لتطوير الطرق وتوصيل مياه الشرب في عدد من القرى والمحافظات.
أضاف أن المجموعة تسعى خلال الفترة المقبلة لمواصلة نشاطها الإجتماعي عبر إنشاء مدرسة جديدة للتعليم الفني في منطقتها الصناعية بقويسنا، وكذلك تدشين مدرسة أخرى ضمن مشروعاتها المقررة في محافظة بني سويف والتي تضم ضخ استثمارات بقيمة 5 مليارات جنيه جنيه حتى نهاية 2023 فى عدة مشروعات، منها الانتهاء من إقامة المجمع الصناعى فى محافظة بنى سويف، وإقامة مناطق لوجيستية ومراكز خدمات ما بعد البيع فى عدد من المحافظات.